فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السؤال الثاني: إن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته، وذلك لأن المتكلمين فريقان: منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية، فكونه إلهًا لنا وكوننا عبيدًا له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحًا وحسنًا، وهذا قول أهل السنة.
ومنهم من قال: التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح؛ وهذا هو قول المعتزلة.
إذا عرفت هذا فنقول: أما على القول الأول: فوجه وجوب بعض الأعمال، وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ونهيه عما حرمه، فمن أتى بهذه العبادات صحت.
أما من أتى بها خوفًا من العقاب، أو طمعًا في الثواب، وجب أن لا يصح، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها، وأما على القول الثاني: فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها، فوجب أن لا تصح، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب، والطمع في الثواب، وجب أن لا يصح.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر قوله: {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض، وقد ثبت بالدليل فساده، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول.
والجواب: ليس المراد من الآية ما ظننتم، بل المراد: وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير، في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء، ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل؟
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على أن الداعي لابد وأن يحصل في قلبه هذا الخوف والطمع؟
والجواب: أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتيًا بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء، ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف، وأيضًا لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة، فوجب كونه طامعًا في قبولها فلا جرم.
قلنا: بأن الداعي لا يكون داعيًا إلا إذا كان كذلك فقوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم، ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم.
ويتأكد هذا بقوله: {يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
ثم قال تعالى: {إن رحمة الله قَريِب من المحسنين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة إيصال الخير والنعمة، فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال، وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1].
المسألة الثانية:
قال بعض أصحابنا: ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة.
واحتجوا بهذه الآية، وبيانه: أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريبًا من المحسنين، أن لا يكون رحمة، والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين، فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه.
المسألة الثالثة:
قالت المعتزلة: الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين، فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين، فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين، والعفو عن العذاب رحمة، والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة، فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين، والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين، فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب، وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار.
الجواب: أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة، فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة، وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار، لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح، ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر، وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه.
فثبت أنه محسن، وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار، فوجب كون هذا القدر إحسانًا، فيكون فاعله محسنًا.
إذا ثبت هذا فنقول: كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين، ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين، فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله، وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم.
فإن قالوا: المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان.
فنقول: هذا باطل، لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسنًا أن يكون آتيًا بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه.
المسألة الرابعة:
لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوهًا: الأول: أن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة.
الثاني: قال الزجاج: إنما قال: {قَرِيبٌ} لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر.
الثالث: قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكره قال الشاعر:
إن السَّماحة والمُروءة ضُمِّنا ** قبرًا بمرو على الطَّريق الواضح

قيل: أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم.
والرابع: أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا: حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر.
قال الواحدي: أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال: تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني، لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضًا قريبة وبعيدة تنبيهًا على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة:
تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قربًا من الآخرة، وبعدًا من الدنيا، فإن الدنيا كالماضي، والآخرة كالمستقبل، والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعدًا عن الماضي، وقربًا من المستقبل.
ولذلك قال الشاعر:
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ** ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعدًا في كل ساعة، وأن الآخرة تزداد قربًا في كل ساعة، وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت، لا جرم ذكر الله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} بناء على هذا التأويل. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال: {وَلاَ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}
وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبيًا فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها، وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها، ويقال: {لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أي لا تجوروا في الأرض فتخرب الأرض لأن الأرض قامت بالعدل، ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعات {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} يعني اعبدوه خوفًا وطمعًا أي: خوفًا من عذابه وطمعًا في رحمته: ويقال: ادعوه في حال الخوف والضيق، ويقال: خوفًا عن قطيعته ورجاء إلى الغاية.
ثم قال: {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل قريبة.
قال بعضهم: لأن القريب والبعيد يصلحان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
كما قال: {يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] وقال: {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هي مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] وقال بعضهم: تفسير الرحمة هاهنا المطر.
فذكر بلفظ المذكر، وقال بعضهم إن رحمة الله قريب.
يعني الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى.
ومعناه: المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}
بالشرك والمعصية والدعاء إلى غير عبادة الله: {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} بعد [اصلاح] الله إيّاها يبعث الرسل، والأمر بالحلال والنهي عن المنكر والحرام وكل أرض قبل أن يبعث لها نبي فاسدة حتّى يبعث الرسل إليها فيصلح الأرض بالطاعة.
وقال عطيّة: معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} قال الكلبي: خوفًا منه ومن عذابه وطمعًا فيما عنده من مغفرته وثوابه، الربيع بن أنس: {خَوْفًا وَطَمَعًا} كقوله: {رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. وقيل: خوف العاقبة وطمع الرحمة، ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. عطاء: خوفًا من النيران وطمعًا في الجنان. ذو النون المصري: خوفًا من الفراق وطمعًا في التلاق {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} وكان حقه قربته. واختلف النحاة فيه وأكثروا وأنا ذاكر نصوص ما قالوا.
قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب. وقال الأخفش: هي المطر فيكون القريب نعتًا للمعنى دون اللفظ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] ولم يقل: منها، لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال. وقال: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] والصواع مذكّر لأنّه أراد به القسمة، والميراث كالمنشريّة والسقاية.
وقال الخليل بن أحمد: القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع يذكر ويؤنث يقول الشاعر:
كفى حُزنًا أنّي مقيم ببلدةً ** أخلاّئي عنها نازحون بعيد

وقال آخر:
كانوا بعيدًا فكنت آملهم ** حتّى إذا ما تقربواهجروا

وقال آخر:
فالدار منّي غير نازحة ** لكن نفسي ما كادت مواتاتي

وقال سيبويه: لمّا أضاف المؤنث إلى المذكّر. أخرجه على مخرج المذكر، وقال الكسائي: إن رحمة الله قريب مكانها قريب كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] أي أتيانها قريب.
قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر وحق المصادر التذكير كقوله: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} [البقرة: 275] وقال الشاعر:
إنّ السماحة والمرؤة ضيمنا ** قبرًا بمروَ على الطريق الواضح

ولم يقل: ضمنتا لأنّها مصدر. وقال أبو عمر بن العلاء: القريب في اللغة على ضربين قريب قرب مقربه أبوابه كقول العرب: هذه المرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وهذه المرأة قريب منك إذا كانت بمعنى المسافة والمكان. قال امرؤ القيس:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ** قريب ولا البسباسة ابنة يشكر

وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد يكونان للتأنيث والتذكير واحتج بقول عروة بن الورد:
خشيته لا عفراء منك قريبة ** فتدنوه ولا عفراء منك بعيد

وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد إذا كانا اسمين استوى فيهما المذكر والمؤنث وان بنيتهما على قَرُبت وبعدت فهي قريبة وبعيدة. اهـ.